الدكتور/ محمد عبد الحليم الجبيصي ... المحامي ... ماجستير في القانون ... دكتوراه في القانون التجاري ... والمستشار القانوني للشركات ورجال الاعمال ... 01002563799

الفرع الثاني .. أدلة المجيزون

الفرع الثاني 
.
أدلة المجيزين
.
المحرمون لمهنة المحاماة هم قليلون جداً و أدلتهم النقلية تكاد تكون معدومة ، وأدلتهم العقلية من السهل الرد عليها .أما المجيزون لهذه المهنة فهم كثر جداً : وقد استدلوا بأدلة نقلية وعقلية كثيرة نوردها بالترتيب التالي :
.
أولاً - القرآن الكريم : في القرآن الكريم ما يدل دلالة قطعية على جواز الاستعانة بمن هو أفصح لساناً وأكثر بياناً ، وأقدر على إبراز الحجة وتمحيص الأدلة والقرائن والمناقشة وغير ذلك .
ولعل الآيات الكريمة تبين ذلك .- قال تعالى : ( قالَ ربِّ إنِّي قَتلتُ مِنهُم نفسَاً فَأخَافُ أَن َيقتُلونِ ? وأَخِي هَارونُ هُوَ أَفصحُ مِنّي لِسَاناً فَأَرسِلهُ مَعي رِدْءاً يُصَدِّقُنِيَّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكذِّبونِ ? قَالَ سَنشُدُّ عَضُدكَ بأخيكَ وَنجعلُ لـكمَا سُلطانـاً فَلا يَصِلونَ إليكمُـا بِـآياتِنـا أنتمَـا ومَنِ اتَّبعكمَا الغَالبونَ ?) .
.
فموسى عليه السلام بعد أن قتل القبطي خاف أن يقتلوه لهذه الفعلة ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه دفاعاً حسناً لما فيه من حبسة لسانه . لذلك طلب من ربّه أن يشد عضده بأخيه ، لأنّه أفصح لساناً وأكثر قدرة على استعمال الحجـج والبراهين .
.
أما هارون عليه السلام فإن دوره يشبه وظيفة المحامي الفصيح العالم بأساليب الجدال وتقديم الدفوع والطلبات .لعل في هذه الآية دليل واضح على شرعية المحاماة في شرع الله سبحانه وتعالى - قول الله تعالى : ( وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يومٍ قالوا ربكم أعلمُ بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزقٍ منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً ?)- قال الإمام القرطبي : ( في هذه البعثة بالــورق دليل على الوكالة وصحتها ) .كذلك قوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاْتُ للفُقَرَاْءِ وَالمَسَاكِينِ والعَامِلِينَ عَلَيْهَا والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيْلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيْلِ فَرِيْضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيْمٌ حَكِيْمٌ ? ).فجواز العمل على الزكاة يفيد حكم الوكالة عن المستحقين في تحصيل حقوقهم : قال الإمام النووي : ( قد تعلق علماؤنا في صحة الوكالة من القرآن بقولـه تعالى : ( والعاملين عليها ) وبقوله : ( اذهَبُوا بِقَمِيْصِي هَذَا فَاَلقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ?) . وآية القميص ضعيفة في الاستدلال وآية العاملين حسنة . وهناك من يحتج بصحة الوكالة بالخصومة ( المحاماة ) .
.
بقول الله تعالى : ( وإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعثوا حَكَمَاً مِن أَهلِهِ . وَحَكَمَاً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيْدَا إِصلاحَاً يوفِّق الله بينهما إنَّ اللهَ كانَ عليماً خبيراً. ? ) .قال الإمام القرطبي لبيان خطأ من يحتج بهذه الآية للبرهان على شرعية الوكالة : (هذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان و للوكيل اسم في الشريعة ومعنى ، وللحكم اسم في الشريعة و معنى ، فإذا بين الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ - فكيف لعالم - أن يركب معنى أحدهما على الآخر ! وقد روى الدار قطني من حديث محمد ابن سيرين عن عبيدة في هذه الآية :( وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها…… الآية ) . قال : جاء رجل وامرأة إلى علي رضي الله عنه مع كل واحد منها فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكماً من أهله و حكماً من أهلها ، وقال للحكمين :( هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما . فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي . وقال الزوج : أما الفرقة فلا . فقال علي : كذبت ، والله لا تبرح حتى تُقر بمثل الذي أقرت به … فلو كانا وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما : أتدريان ما عليكما ؟ إنما كان يقول : أتدريان بما وكلتما ؟… ).
.
وبعد أن بين لنا الأمام القرطبي عدم صحة الاحتجاج بهذه الآية لشرعية المحاماة أورد آية أخرى يمكن أن تبين شرعية المحاماة من حيث أنها تعاون على رفع الظلم وبيان الحق ،وهو نوع من أنواع البر والتقوى .قال تعالى : (وتعـــــاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثـــم و العــدوان و اتقــوا الله إنّ الله شـــــديد العقاب ? .) وهو أمر من الخالق العظيم لجميع خلقه بالتعاون على البر و التقوى و (البر يتناول الواجب والمندوب إليه ،والتقوى رعاية الواجب …) . فعلى العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم ويعينهم الفني بماله ،والشجاع بشجاعته في سبيل الله .
.
وعلى المحامي الشرعي أن يعين المسلمين الدفاع عن حقوقهم ،فيبين لهم الحق من الباطل كما يبين لهم الطرق الكفيلة باسترداد حقوقهم المغتصبة ، وأموالهم المعرضة للخطر .
.
ثانياً - السنة النبوية الشريفة :لا يخلوا كتاب من كتب السنة إلا وبين طيات صفحاته عدد حسن من الأحاديث التي تدل دلالة المفهوم أو المنطوق على شرعية المحاماة .
.
قال الأمام الشوكاني - عليه رحمة الله- : ( أما كون الوكالة تجوز في كل شيء ، فلأنه قد ثبت منه صلى الله عليه وسلم التوكيل في قضاء الدين ) ، كما في حديث أبي رافع رضي الله عنه أنه أمره أن يقضي الرجل بكره .).وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في استيفاء الحد كما فيحديث : ( واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن أعترفت فارجمها ) .وثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في القيام على بدنه وتقسيم جلالها وجلودها ، وهو في الصحيح وثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في حفظ زكاة رمضان ، كما في صحيح البخاري في حديث أبي هريرة وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن أعطى عقبة بن عامر غنماً يقسمها بين أصحابه ، وقد تقدم في الضحايا وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر : (إذا أتيت وكيلي فخذ من خمسة وسقاً ) كما أخرجه أبو داود و الدارقطني .
.
وإني لأجد أصول الوكالة بالخصومة ( المحاماة ) في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ان يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار ) . وفي سنن أبي داود : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار ) .في هذا الحديث وصف لأحوال الناس أمام القضاء من خلال إظهار تفاوتهم في البيان والآراء وهذا التبيان يؤدي إلى خلل في ميزان العدل ، فالذي يملك لساناً طلقاً وأسلوباً متيناً مزخرفاً بالحجج المركبة والبراهين المستعارة يستطيع أن يقلب الباطل حقاً ، والحق باطلاً .أما الخصم الآخر فيقع لقمة سهلة المضغ أمام لحن خصمه وحجته .أما إذا استعان الخصم الضعيف بوكيل يملك من العلم ما يملك فإنه يستطيع أن يدحض حجة وبراهين خصمه ، ويرجع الحق إلى أصحابه .
.
ولعل هذه القصة تبين استحسان اتخاذ المقصّر وكيلاً يعادل خصمه بلاغة وحججاً . كما وقع في تاريخ القضاء مرات .من ذلك ما رواه الخشني في قضاة قرطبة ، قال : ( اختصم إلى أحمد ابن تقي رجلان ، فنظر إلى أحدهما يحسن ما يقول ونظر إلى الآخر لا يدري ما يقول وأراه توسم فيه ملازمة الحق فقال : يا هذا لو قدمت من يتكلم عنك وأرى صاحبك يدري ما يتكلم . ( فقال له أعزك الله إنما هو الحق أقوله كائناً ، فقال القاضي: ما أكثر من قتله قول الحق ) .
.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بتمر بريّ ، فقال له صلى الله عليه وسلم : من أين هذا ؟ قال بلال : كان عندنا تمر رديّ ، فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم عند ذلك : ( أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم أشتره ) . ولا جرم أن هذا الحديث يتكلم عن الوكالة ولكن يجب أن لا يخفى عن القارئ اللبيب أن الوكالة هي القاعدة الصحيحة للمحاماة الشرعية .وقد بوب البخاري - عليه رحمة الله - أحد أبواب صحيحه بباب الوكالة وبدأ كتابه بحديث علي رضي الله عنه قال : ( أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أتصدق بجلال البدن التي نحرت وبجلودها ) .
.
وعن عروة الباروني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنّ رسول الله أعطاه ديناراً ليشتري به شاة فأشترى به له شاتين . فباع أحدهما بدينار . فجـاء بشـاة ودينار فدعـا له بالـبركة في بيته . فكان لو أشترى التراب ربح فيه ) .
.
وعن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال : ( أردت الخروج إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقاً ) .ففي هذا الحديث دليل واضح على شرعية الوكالة وتعلق الأحكام بالوكيل .ونورد الآن أحاديث تدعم وتعزز المحاماة . ويجب أن لا يخفى على القارئ أننا نعالج المحاماة كما يجب أن تكون وفق أحكام الشريعة الإسلامية . فالمحاماة في وضعها الحالي ليست شرعية حالها حال القانون الوضعي نلجأ إليها مضطرين فقط . كما يضطر الجائع إلى أكل لحم الميتة أما في حال وجود الطعام الطيب فلا يحل له أن يأكل إلا طيباً .
.
الأحاديث المقوية لشرعية المحاماة :-
.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه ….) .
.
وقد فسر بن رجب الحنبلي رحمه الله النصيحة للمسلمين بأن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه ، ويشفق عليهم ويرحم صغيرهم ويوقر كبيرهم ، يحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم وإن ضره ذلك في دنياه كرخص أ سعارهم وإن كان في ذلك فوات ربح ما يبيع من تجارته وكذلك جميع ما يضرهم عامة ، ويحب ما يصلحهم وألفتهم ودوام النعم عليهم ، ونصرهم على عدوهم ودفع كل أذى ومكروه عنهم …
.
وقال الخطابي : ( … النصيحة لعامة للمسلمين وإرشادهم إلى مصالحهم …) .ولا جرم في أن المحامي المسلم يستطيع أن يقدم النصيحة لموكله فيدفع عن نفسه ما يكره ويضر مصالحه كما يستطيع أن ييسر لموكله ما ييسر عليه من قضايا ومصالح ، فيكون المحامي خير من يوصله إلى بر الأمان .- ( إن الدين النصيحـة : لله ولكتابه ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم ) .الشاهد في هذا الحديث النصيحة لعامة للمسلمين . إذ يستطيع المحامي أن يرشد المسلمين إلى ما يصلح دنياهم وذلك بكف الأذى عنهم وتعليمهم الأنظمة وما يجهلونه . كما يستطيع أن يستر عوراتهم ويعلمهم واجباتهم وحقوقهم وكيفية المطالبة بها والدفاع عنها والمحافظة عليها. - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) . هذا الحديث الشريف يبين لنا قاعدة جليلة في رفعتها وعامة في حكمها وهي :أن جميع الأعمال والأفعال بالنيات ، أي أن المحامي إذا كانت نيته الدفاع عن الحق ونصرة المظلوم فإن عمله هذا صحيح وشرعي . أما إذا كانت نيته الكسب المادي بأي شكل من الأشكال ولو كان ذلك بإهدار الحقوق وانتهاك الحرمات فلا شك بأن عمله غير شرعي وكسبه حرام .
.
ثالثاً : الإجمــــــــــاع :
.
قال الأستاذ سيد سابق : ( أجمع المسلمون على جوازها بل على استحبابها لأنها نوع على التعاون على البر والتقوى الذي دعا إليه القرآن الكريم وحببت فيه السنة . يقول سبحانه وتعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ?) .
.
وقال الشيخ الكوهجي : ( انعقد الإجماع على جوازها ) .
.
وقال الإمام النووي : ( الإجماع منعقد على مدى الدهر منذ نزل الوحي إلى اليوم وإلى يوم الدين ) .
.
وقال الأمام الشوكاني : ( وقد قام الإجماع على مشروعيتها ) . وربما يقول قائل أن كل هذه الأقوال تثبت مشروعية الوكالة ، وليس مشروعية المحاماة نقول بان المحاماة التي نحاول صياغتها تعتمد اعتماداً ربما كلياً على الوكالة في حكمها وشروطها بالإضافة إلى وحدة العلة بين الوكالة والمحاماة ، والتي سوف نراها في الدليل الخامس إن شاء الله تعالى .
.
رابعاً – الأثـــــــــــــــر :
.
توجد في بطون الكتب آثاراً كثيرة تبرهن على أصالة المحاماة في المجتمع الإسلامي أورد منها : - روي أن علياً – رضي الله عنه - وكّل عقيلاً رضي الله عنه عند أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ، وقال ما قضى له فلي ، وما قضى عليه فعلي ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان - رضي الله عنه - ، وقال علي إن للخصومات قحماً ) فهذا الأثر يدل دلالة واضحة على شرعية المحاماة وأن عقيلاً وعبد الله بن جعفر هما محاميا علي –رضي الله عنه - يدافعان عنه وعن حقوقه ، والذي يقضي عليهما ، فعلى علي وما يقضى لهما ، فهي لعلي - رضي الله عنه - .
قال الإمام الشافعي – عليه رحمة الله - : ( و أقبل الوكالة من الحاضر من الرجال والنساء في العذر وغير العذر وقد كان علي - رضي الله عنه - وكل عند عثمان عبد الله بن جعفر وعليّ حاضر فقبل ذلك عثمان وكان يوكل قبل عبد لله بن جعفر عقيل بن أبي طالب و لا أحسبه إلا كان يوكله عند عمر و لعل عند أبي بكر وكان علي يقول إن للخصومة قحماً و إن الشيطان يحضرها ) .
.
وقال الإمام القرطبي : ( الوكالة معروفة في الجاهلية والإسلام ألا ترى إلى عبد الرحمن بن عوف كيف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة أي يحفظهم ، وأمية مشرك ، التزم عبد الرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه ) .
.
وذهب الإمام السرخسي في المبسوط إلى أنه ( قد جرى الرسم على التوكيل على أبواب القضاة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ولا زجر زاجر ) .-
.
أما الأثر الثاني فقد جاء على لسان عبد الله بن جعفر وكيل علي رضي الله عنه (خاصمني طلحة بن عبيد الله في ضفير أحدثه علي رضي الله عنه بين أرض طلحة وأرض نفسه فوقع عند طلحة أن علياً أضر به ، وحمل عليه السيل و لم ير على ذلك ضرراً حين أحدثه . قال فوعدنا عثمان أن يركب معنا فينظر إليه . فقال إني و طلحة نختصم في المواكب ، وأن معاوية على بغلة شهباء أمام الموكب قد قدم قبل ذلك وافداً ، فألقى كلمة عرفت أنه أعانني بها . قال : أرأيت هذا الضفير كان على عهد عمر ؟ قـال : قلت : نعم . قال : لو كان جوراً ما تركه عمر : قال : فسار عثمان حتى رأى الضفير ، فقال : ما أرى ضرراً ، وقد كان على عهد عمر ، ولو كان جوراً لم يدعه . وإنما قال ذلك ، لأن عمر كان معروفا بالعدل ودفع الظلم …) .- كانت بين حسان بن ثابت ، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم و بين بعض الناس منازعة عند عثمان بن عفان ، فقضى عثمان على حسان ، فجاء حسان إلى عبد الله بن عباس فشكا ذلك إليه ، فقال له ابن عباس : (الحق حقك ولكن أخطأت حجتك ، انطلق معي . فخرج به حتى دخلا على عثمان فاحتج له ابن عباس حتى تبين عثمان الحق فقضى به لحسان بن ثابت ) .وهذا الأثر واضح الدلالة من دون أي تفسير ، أو تأويل على أصالة المحاماة في التاريخ الإسلامي ، فحسان بن ثابت شاعر رسول الله يجيد الشعر وصوغه ، بيد أنه لا يستطيع أن يصيغ أقواله بقوالب من الشرع الحنيف تبين و تثبت حقه . بل هذه مهمة الجهبذ ابن عباس رضوان الله عليه الذي فقه قضية حسان وبيّن للقاضي الحق فقضى به .-
.
ونسوق من كتاب الوثائق و السجلات للفقيه ابن العطار المتوفى سنة 399 / 1008 م وهو يجري على هذه الصورة :( وكل فلان فلاناً عند القاضي فلان قاضي الجماعة بقرطبة على المخاصمة عنه وله و على الإقرار عليه ، والإنكار عنه بوكالة التفويض التامة التي أقامه فيها مقام نفسه وقبل فلان توكيله ) وإن كانت وكالة جامعة أضاف بعد قوله : ( وعلى الإقرار عليه والإنكار عنه ) ( وطلب حقوقه واستخراجها وتقاضي الأعمال إن وجـبت له و قبض حقوقه والبيع عليه و الابتياع له والمصـالحة عنه لغير خصم ) . ثم يقول : ( شهد على إشهاد الموكل فلان و الموكل فلان على أنفسهما بما ذكر عنهما في هذا الكتاب من عرفهما وسمعه منهما ، وهما في حال الصحة وجواز الأمر ، وذلك في شهر كذا من سنة كذا …) .
.
هذا نص صريح من بطون الكتب يبين نماذج من العقود التي تحرر بين الموكلين والوكلاء في الخصومات ، وما ينبغي أن تكون عليه من دقة .وفي كتب التاريخ وتراجم القضاة أن هناك وكلاء يخاصمون عن الناس بين يدي القضاة لمعرفتهم بالكتاب والسنة والفقه ووجوه الفتوى والتشريع وكان الوكيل لا يخاصم عن موكله إلا بوثيقة موثقة يقدمها إلى القاضي تشهد له بانه موكل بالخصومة .
.
خامساً : المعقــول :
.
إن الله تعالى خلق الناس متفاوتين في المواهب والقدرات ، وفتح لهم أبواب الرزق ، ويسر لكل منهم سبيلا ، أو أكثر للكسب والمعاش . فمنهم من أوتي القدرة والكفاءة التي تجعله على استعداد ، لأن يباشر جميع أعماله بنفسه ، إلا أنه قد تتوالى عليه الشواغل وتتزاحم عليه الأعمال فيضطر إلى الاستعانة بالآخرين.ومن الناس من لم يأتي من القدرة والكفاءة ما يؤهله للقيام بأعمال قد يكون هو بأمس الحاجة إليها . وقد تكون لديه القدرة والكفاءة ، لكن تنقصه الخبرة في عمل من الأعمال أو مصلحة من المصالح ، ومنهم من يكون صاحب حق ، ولكنه لم يؤت من الحجة واللسان، والفصاحة والبيان .ما يجعله قادراً على أن يظهر حقه ويدافع عن نفسه وقد يكون خصمه ألحن منه في حجته ، فيقلب باطله حقاً .من أجل ذلك كله كانت الحاجة ماسة إلى الاعتماد على غيرهم ولاستفادة من خبراتهم في بعض أعمالهم ، قليلة كانت أم كثيرة فكانت المصلحة في تشريع الوكالة سداً للحاجة وتيسيراً للمعاملة ، ورفعاً للحرج الذي جاء شرع الله تعالى يرفعه إذ قال: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) .
.
وقال إبراهيم بن علي في تبرير الوكالة بالخصومة : ( لأن الحاجة تدعو إلى التوكيل بالخصومات ، لأنه قد يكون له حق أو يُدّعى عليه حق ولا يحسن الخصومة أو يكره أن يتولاها بنفسه فجاز أن يوكل فيه ذلك من غير رضى الخصم ) .و بعد كل هذه الأدلة النقلية والعقلية يتبين أن المحاماة شرعية وأصلية في الشريعة وفقه الشريعة الإسلامية . والمحاماة أصبحت في العصر الحاضر فناً من الفنون ، وعلم من العلوم التي لا يستغنى عنها للحفاظ عن الحقوق والدفاع عنها .
.
و أختم هذا البحث بقول الله تعالى : {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } البقرة286 .