الدكتور/ محمد عبد الحليم الجبيصي ... المحامي ... ماجستير في القانون ... دكتوراه في القانون التجاري ... والمستشار القانوني للشركات ورجال الاعمال ... 01002563799

الفرع الأول .. المحرمون وأدلتهم

الفرع الأول
.
المحرمون وأدلتهم
.
حلل معظم الفقهاء والكتاب المحدثين هذه المهنة . بيد أن قلّة قليلة منهم هاجم هذه المهنة وأصحابها حرم امتهانها والالتجاء إليها .و لعل أشهر هؤلاء العلّامة أبو الأعلى المودودي عليه رحمة الله ، وهو أمير الجماعة الإسلامية في الباكستان .والشهيد الدكتور عبد لله عزّام ، والدكتور خادم حسين .
.
وسوف نورد آرائهم وأدلتهم التي استندوا إليها مع مناقشة لهذه الأدلة والبراهين :
.
أولاً-العلامة المودوي : قال الإمام المودودي يرحمه الله : ( هذه المهنة من أكبر معايب النظام الحاضر للمحكمة ، بل لعلها أكبرها وأشنعها ولا يمكن أن تقال أي كلمة في تبرير بقائها من الوجهة الخلقية .أما من الوجهة العملية ، فليس هناك حاجة حقيقية لأعمال المحكمة لا يمكن سدّها بطريق غير طريق المحاماة .إن حرفة المحاماة مما يأبى مزاج الإسلام وجوده إباءً شديداً ….. ) .فالإمام المودودي يقرر أن المحاماة محرمة في الشريعة الإسلامية لعدة أسباب لعل أهمهـا :
.
1- هذه الحرفة من أكبر معايب النظام الحاضر للمحاكم الوضعية .
.
2- عدم وجود أي مبرر خلقي ، أو عملي لبقاء هذه المهنة في المحاكم .
.
3- إن وجودها يؤدي إلى تلاعب المحامين بالقانون الإلهي ، كما يتلاعبون الآن بالقوانين الوضعية .
.
4- إن المحامي يأخذ محلّه في السوق ببضاعة مهارته ، فهو يخرج الحجج القانونية لمن يوكله ، ولا يهمه إن كان موكله على حق أم على باطل .
.
5- إن هذه الحرفة ما ضرت نظام العدالة فحسب بل تسربت مضرتها إلى كل مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية .
.
6- إن الحكم الإسلامي عمر أكثر من نصف الدنيا ، دون أن ترى لهذه الحرفة أثراً .
ثم يورد الشيخ حرفة أخرى لتحل محل المحاماة مكونة من منصب الإفتاء و الوالة بالخصومة :
.
1- منصب الإفتاء : طالب الشيخ بتجديد منصب الإفتاء عن طريق تعيين من لهم خبرة في القانون على أن تقتطع لهم الرواتب المعقولة من الخزانة العامة حسب حاجة كل بلدة ومقاطعة . ويكون تزويد أي من الخصمين لهذا الموظف بأي مبلغ من المال غير مشروع بحكم القانون . ولا يكون للحكومة أي حق في الضغط عليهم أو التأثير على آرائهم عندما يحضرون المحكمة ويدلون بدلائلهم .
.
2-الوكالة : كما طالب الشيخ - رحمه الله - بإحياء وتطوير الوكالة التي كانت رائجة في محاكمنا أيام الحكم الإسلامي ، عن طريق إنشاء صفوف ثانوية يعلُم فيها ذوي الثقافة المتوسطة قانون سير القضايا نظرياً وعملياً . والمتخرجون من هذه الصفوف لا ينبغي أن يكون من واجبهم إلا إعداد القضايا وتهذيبها للضابطة حتى تصير قابلة للمرافعة في المحاكم ولا بأس بالإذن لهم بتقاضي أجرة مناسبة من المراجعين على مثل هذه الأعمال .رحم الله شيخنا المودودي فقد فسر الماء بعد الجهد بالماء وعوضاً عن تسهيل وتبسيط الإجراءات القضائية قام بتعقيدها بفصل مهنة المحاماة إلى مهنتين : الإفتاء والوكالة . وعوضاً عن هذه الحلول المعقدة و التي تزيد الطين بلة .لماذا لا نهذب مهنة المحاماة وفق شرعنا الحنيف وأخلاقنا السامية ومتطلبات العصر الحديث ؟وسيرى القارئ العزيز سمات المحامي الشرعي الذي ينبغي أن يكون في شرعنا الحنيف منثورا في قرآننا الكريم و سنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم .ثانياًً : الدكتور عبد الله عزام : أما الشهيد عبد الله عزام فقد قال : ( قال بعضهم إن عمل المحامي حرام ، لأنه يترافع أمام الطاغوت ويوقر الحكم بأحكام الكفر ، ويبجل القضاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ، وقـد تدخل المبالغات والزيــادات والتهويلات في مرافعاتـه …) .
.
يتبين مما تقدم أن الشهيد عبد الله عزام يحرم المحاماة لعدة أسباب ومفهوم المخالفة يقضي عند انتفاء هذه الأسباب أن يتغير الحكم ويكون ما هو حرام وفق ظروف معينة حلالاً وفق ظروف عكسية .والأسباب التي دعت الشهيد إلى هذا الحكم هي :
.
1- ترافع المحامي أمام الطاغوت الذي يحكم بغير ما أنزل الله .وعليه فإن المحاماة تصبح شرعية إذا لم يترافع المحامي أمام طاغوت ، بل أمام قاضي شرعي يحكم بما أنزل الله .
.
2- إن المحامي يدخل المبالغات والتهويلات في مرافعاته وعليه فإذا تأدب المحامي بآداب الإسلام وحدوده ، فإن هذه المهنة تصبح شرعية ولا شك في ذلك .الخلاصة: أن المحاماة تصبح شرعية إذا وضعت في بيئة إسلامية وصيغت صياغة وفق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء .ثالثاًً : الدكتور خادم حسين :كان السيد خادم حسين من أشد مهاجمي المحاماة والمحامين وأستدل على حرمة المحاماة بما يلي : )1-عدم معرفة هذه المهنة قبل القرن الثاني عشر من الهجرة إذ دخلت إلينا عبر أوربا التي استعمرت بلادنا .2-إن الإسلام لا يبيح التوكيل بالخصومة أمام القضاء إلا في حالات اضطرارية .
.
3- الأجر الذي يستحقه المحامي مجهول يحيط به الغرر من كل جهة و أصول الشريعة لا تبيح صفقات الغرر .
.
4- التوكل بدفع الحد عن المتهم لا يصح في الإسلام .
.
5- المحاماة عبارة عن شفاعة والوكيل هو الشفيع ، والموكل هو المشفوع له ، والمعلوم أن الشفاعة لا تصح وعليه فإن المحاماة محرمة .
.
6- المحاماة قرينة بمهنة صناعة الخمر وبيع لحم الخنزير وهي من الحرف التي لا تجيزها أصول الشريعة .وقد أحدثت مقالة للدكتور خادم حسين في تحريم الشريعة الإسلامية للمحاماة ضجةً عنيفة جداً وأثارت حفيظة كثير من العاملين في سلك القضاء والمحامين .ومـن الذيـن ردوا على مقالة خـادم حسين القاضي الشـرعي فـي دولـة قطر - عبد القادر العماري - . والدكتور عبد لله رشوان إضافة إلى مقالات لم تنشر في الصحف لكثرتها .
.
الرد على شبهات الدكتور خادم حسين :
.
*الشبهة الأولى : عدم معرفة هذه المهنة قبل القرن الثاني عشر من الهجرة ودخولها إلى بلادنا عبر أوربا مع الاستعمار الأوربي .
.
*الرد على الشبهة الأولى : إن المحاماة أو ما يطلق عليها الفقهاء الوكالة بالخصومة قديمة في بلادنا قدم المحاكم الشرعية ، بيد أن هذه المهنة لم تتطور إلا عند دخول الاستعمار الغربي إلى بلادنا ونحن سنستطيع - بعون الله سبحانه وتعالى - بعد أن تخلصنا من الاستعمار المباشر أن نتخلص من تلاميذه المسيطرين على معظم البلاد الإسلامية و أن نصبغ هذه المهنة الهامة بصبغة شرعية توافق بيئتنا الإسلامية و شرعنا الحنيف .وليعلم الكاتب بأننا قد سبقنا أوربا منذ قرون في معرفة جذور هذه المهنة في الوقت الذي كانت لدينا الوكالة بالخصومة كان لدى أوربا ما يعرف بالنزال وصديق المتهم وهما أسلوبان همجيان للدفاع عن الموكل .
.
*الشبهة الثانية: إن الإسلام لا يبيح التوكيل بالخصومة أمام القضاء إلا في حالات اضطرارية .
.
*الرد على هذه الشبهة :الحقيقة هي أن الوكالة بالخصومة جائزة في كل القضايا كقاعدة عامة إذا كانت ضمن دائرة المساعدة على إظهار الحقيقة وتطبيق الشريعة .فالسلف الصالح - رضوان الله عليهم - كانوا يستخدمون الوكالة على نطاق واسع ولعل الأحاديث والآثار التي سوف نوردها - إن شاء الله - ستبين هذه الحقائق .
.
*الشبهة الثالثة : إن الأجر الذي يستحقه المحامي مجهول يحيط بـه الغرر من كل جهة .
.
*الرد على هذه الشبهة :يقول الدكتور عبد الله رشوان رداً على هذه الشبهة : ( هذا الأجر أو الأتعاب نظير عمل ، وهو الجهد الذي يبذله المحامي في القضية لإظهار حقائقها بناء على اتفاقه مع موكله وبصرف النظر عن أي نتيجة . وهذه هي الحقيقة التي غابت عن الكاتب بحيث ظنّ أن الأتعاب مرهونة بنتيجة الخصومة . وبالتالي راح يربطها بعقود الغرر حتى يصل إلى حجة تؤيده فيما ذهب إليه من تحريم مهنة المحاماة في الكلية في الشريعة الإسلامية ، وهذا خطأ وقد يكون سبب هذا الفهم ما جرى عليه عرف بعض المحامين من تأجيل سداد بعض الأتعاب حتى تنتهي القضية وهو ما يسمى بمؤخر الأتعاب . وللمحامي الحق في تأجيل أتعابه كلها أو بعضها دون أن يمس ذلك أصل استحقاقه لها وكثير من المحامين الإسلاميين لا يعملون بهذا العرف ويتقاضون أتعابهم مقابل نظير عملهم فقط دون النظر إلى نتيجة الحكم في الدعوى وكـان مـن هـؤلاء ، المحــامي عبد القـادر عودة رحمه الله ) .
.
*الشبهة الرابعة : إن التوكل بدفع الحد عن المتهم لا يصح في الإسلام في القضايا الجنائية ( أي في الحدود ) .
.
*الرد على هذه الشبهة :خلط الكاتب هنا بين التوكل بالخصومة ، والتوكيل فيما لا يقبل النيابة ، والفقهاء قد صرحوا بقبول توكيل المدعى عليه بالحد والقصاص بيد أنهم اختلفوا بحق الوكيل بالاعتراف عن موكله .
.
* الشبهة الخامسة : المحاماة عبارة عن شفاعة في حدود الله .
.
*الرد على هذه الشبهة :إن الشفاعة التي لا تجوز هي طلب الرحمة لمقترفي الحد بعد ثبوت الحد وصدور حكم قضائي عليهم بذلك . و لعل أبين مثال على ذلك هو محاولة أسامة بن زيد رضي الله عنه الشفاعة للمرأة المخزومية بعد ثبوت الحد عليها : (عن عائشة بنت مسعود بن الأسود ، عن أبيها : قال لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعظمنا ذلك وكانت امرأة من قريش . فجئنا : إلى النبي صلى الله عليه وسلم نكلمه ، وقلنا : نحن نفديها بأربعين أوقية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تطهر خير لها ) فلما سمعنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتينا أسامة فقلنا : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قام خطيباً فقال : ( ما إكثاركم علي في حد من حدود الله عز وجل وقع على أمة من إماء الله ؟ والذي نفسي بيده ! لو كانت فاطمة ابنة رسول الله نزلت بالذي نزلت به ، لقطع محمد يدها ) .وعلى هذا فإن المرأة المخزومية قد سرقت وثبت جرمها بحكم بات أصدره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء أسامة ابن زيد فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع لها بحد ثبت بشكل قاطع .
.
أما لو كان أسامة بن زيد جاء ليظهر حقيقة قد خفيت لكان فعل أسامة صحيحاً وشرعياً . والمحاماة على ما أعتقد تقع ضمن هذه الدائرة .
.
وعن صفوان بن عبد الله بن صفوان : ( أن صفوان بن أمية قيل له : إنه إن لم يهاجر هلك ، فقدم صفوان بن أمية المدينة ، فنـام في المسجد وتوسد رداءه ، فجاء سارق فأخذ رداءه ، فأخذ صفوان السارق ، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده فقال له صفوان : إني لم أرد هذا يا رسول ، هو عليه صدقة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلا قبل أن تأتيني به ) .هذا الحديث فيه دلالة واضحة على أن الشفاعة تصح في غير مجالس القضاء ، والمحامي قد يستطيع إقناع المتضرر (المسروق ) بعدم رفع الأمر إلى القضاء ليحل الأمر بشكل ودي ، أما إذا رفع الأمر إلى القضاء ، وكان هناك شبهة تدرأ الحد عندها يستطيع المحامي بيان هذه الشبهة والبرهان على أنها تدرأ الحد عن موكله .لقد أجمع فقهاء الأمصار على أن الحدود تدرأ بالشبهات والحديث المروي في ذلك متفق عليه ، تلقته الأئمة بالقبول .: ( من ذلك أن امرأة رفعت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد زنت فسألها عن ذلك فقالت : نعم يا أمير المؤمنين وأعادت ذلك وأيدته ، فقال علي : أنها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام ، فدرأ عنها الحد ) .
.
وقد قسم فقهاء الحنفية الشبهة إلى شبهة في الفعل تسمى شبهة الاشتباه وشبهة في المحل ، الأولى تتحقق في حق من اشتبه عليه الحل والحرمة فظن غير الدليل دليل ، فلا بد من الظن وإلا فلا شبهة أصلاً كظنّه حل وطء المطلقة ثلاثاً في العدة ففي هذه الحال لا حد إذا قال ظننت أنها تحل لي والشبهة في المحل مثل المطلقة طلاقاً بائناً بالكنايات ثم جاء الإمام أبو حنيفة بشبهة ثالثة وهي شبهة العقد فلا حد إذا وطئ محرمه بعد العقد عليها وإن كان عالماً بالحرمة فلا حد على من وطئ ، امرأة تزوجها بلا شهود وبغير إذن مولاها . فالمحامي يستطيع أن يتأكد من حقيقة الشبهة ومدى مسؤولية موكله تجاهها ثم يحاول أن يجد ما يخفف الحكم عن موكله إذا كان مقتنعاً أن هناك ظروفاً توجب ذلك ، ولكن ليس من حقّه بل لا يجوز له أن يحاول تبرئة موكله من التهمة الموجهة إليه وهو يعلم أن الحقيقة خلاف ذلك . إن من حق المتهم أن يبعد عن نفسه التهم وإن الغالب في المتهمين إذا دخل دوامة الاتهام يقع تحت ضغط نفسي وعصبي لا يتمكن معه من تجميع أفكاره وإيرادها بالتسلسل وبالوجه الصحيح وهنا يأتي دور المحامي فيعقد القضية ويهيئها ويهيىء الحجج والبراهين والمستندات اللازمة وكل الأدلة والقرائن وهي أن المحامي سيمنع وقوع الحد ، فإن الشرع الحنيف - ولله الحمد - لا يتعطش إلى إقامة الحدود أبداً .وبعد هذا هل يمكن أن ندعي بأن المحاماة ما هي إلا شفاعة في الحدود لكي يترك المتهم تحت سطوة التهمة وعظمة بلواها بحيث لا يستطيع أن يدافع عن نفسه بحكم الكرب الذي وقع فيه ، أما المحامي بحكم علمه وإطلاعه وبعده عن هذا الكرب ، يستطيع أن يجمع الأدلة ويعد الدفوع للدفاع عن المتهم ولإقناع القاضي ببراءته من التهمة الموجهة إليه .
.
*الشبهة السادسة : المحاماة قرينة بمهنة صناعة الخمر وبيع لحم الخنزير ، فهي من الحرف التي لا تجيزها أصول الشريعة .
.
*الرد على الشبهة :صاحب هذه الشبهة يقيس مهنة صناعة الخمور وبيع لحم الخنزير بمهنة المحاماة وهذا يؤدي إلى أن المحاماة المحرمة بين المسلمين حل لسواهم . وهذا أمر لا يقوله أحد من أهل القبلة إلا بدليل شرعي قطعي الدلالة والثبوت .وسيرى القارئ في الصفحات التالية أن هناك أدلة نقلية وعقلية تبين شرعية المحاماة وضرورتها خاصة في المجتمع المسلم المعاصر .